التنوير والتغريب- طريقان متباينان نحو التقدم والازدهار
المؤلف: أوس الحربش11.16.2025

ممّا لا ريب فيه أن مفهومي التنوير والتغريب يشتركان في حيّز كبير، إلا أنّ التمييز بينهما بات ضرورة ملحّة في عصرنا الحالي. ويعود ذلك لاعتقاد جازم بأنّ التنوير يمثّل حجر الزاوية في تقدّم الأمم، بينما التغريب يؤدي إلى خلق مجتمع رخو القوام، سهل الاختراق والتدمير من الداخل. صحيح أنّ مصطلح التنوير ظهر في الأصل لوصف مرحلة تاريخية غربية، انطلقت مع عصر النهضة وتزامنت مع الثورة العلمية، وشهدت فصل الدين عن الدولة، وانطلاق الغرب نحو تحقيق مبادئ نبيلة كالقانون والعدالة والحرية والتسامح وفصل السلطات. ومع ذلك، يبقى التنوير مصطلحًا شائعًا يصف الحالة العامة لأي أمة تسعى جاهدةً لتوفير مقومات انطلاقها نحو آفاق التقدم والازدهار.
تتجلى أدوات هذا التقدّم في تطوير البنية الفكرية للإنسان جنبًا إلى جنب مع تعزيز القدرات الاقتصادية للدولة. وتتمثّل ثماره في الارتقاء بالفرد وتدعيم الروابط الاجتماعية. ففي المجتمع المتنوّر، يكون الفرد فعالًا وإيجابيًا، لكنه ليس أنانيًا، بينما يكون المجتمع متماسكًا وقويًا، لكنه لا يُثبّط عزيمة الفرد وطموحاته.
أمّا مصطلح التغريب، فهو مفهوم حديث نسبيًا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتاريخ الاستعماري لأوروبا. فقد سعى المستعمر الأوروبي إلى ربط التطور والتقدّم بتقليده الأعمى، ليس فقط في التفكير والتحليل والطموح، بل أيضًا في المظهر والسلوك والقيم. وقد ترك ذلك آثارًا مدمرة على العديد من المجتمعات والأمم. لكنّ الله حفظ بلادنا الغالية من الوقوع في هذا الفخ، بفضل حكمة قيادتها الرشيدة وأصالة جذور الأجداد الراسخة في نفوس شعبها.
وبدلًا من الاعتماد على التعليم والتثقيف، كما هو الحال في المشروع التنويري، نجد تركيزًا مكثفًا على استخدام وسائل الإعلام والفعاليات المختلفة في المشروع التغريبي. كما نلاحظ أنّ المشروع التنويري يتسم بصعوبة تحقيقه وطول مدته الزمنية اللازمة لتحقيق أهدافه، بينما يبدو المشروع التغريبي سهل التحقيق وقصير النظر في إنجازاته.
لا شكّ أنّ المشروع التنويري لا يأتي إلا بالخير لأصحابه، بينما يستورد المشروع التغريبي الخير والشر على حد سواء، وقد يطغى الشر على الخير دون وعي أو تمحيص. قد يبدو أخذ الحسن والسيئ معًا من حضارة أخرى أمرًا معيبًا وواضحًا، إلا أنّ سهولة تنفيذه تجعله مشروعًا جذابًا وسريعًا لأي مشروع نهضوي. لكنه طريق محفوف بالمخاطر، ويصعب تقويمه وتصحيحه في غياب أدوات التقييم والانتقاء السليمة، لذلك يرى العديد من المفكرين والمحللين ضرورة تجنبه تمامًا.
لا ريب أنّ المشروع التغريبي سيجلب معه إلى أي مجتمع يتبناه مشاكل الغرب المتراكمة، كالمادية الاستهلاكية، والفردية المفرطة، والانغماس في الشهوات، والانتهازية، والإباحية، والمثلية. ولحسن الحظ، يستند العرب إلى تراث عريق وتاريخ مجيد ودين قويم يحميهم حتى الآن من هذه الآفات الخطيرة التي تنخر في الفرد وتفكك المجتمع. لكنهم في الوقت نفسه بأمس الحاجة إلى مشروع تنويري مدروس بعناية، وطويل الأمد، يقودهم نحو التطور والازدهار من خلال الارتقاء بتركيبة العقل العلمية والحقوقية والإنتاجية والانضباطية والبيئية.
